Thursday, November 21, 2019

يقطن عدد محدود من السكان في مدينة "ناي بي تاو" رغم مساحتها الشاسعة

والمعروف أن عملية نقل المقابر في ميانمار، تستلزم أن تُنقل أرواح المدفونين فيها إلى المكان الجديد للرفات، وهو ما جعل مسألة إزالة هذه المقبرة تحديدا أكثر تعقيدا وخطورة. فقد كانت تضم رفات جنود يابانيين قتلوا خلال الحرب العالمية الثانية. وبحسب المعتقدات البورمية، تؤدي مفارقة المرء الحياة في ظروف تتسم بالعنف، إلى أن "يُخلّف رواسب روحية لا يمكن تبديدها بالكامل خلال مراسم تشييع جنازته"، كما قالت لي الباحثة في شؤون الديانات بميانمار، بينديكت براك دو لا بارير.
ولذا أقر الضابط البورمي في حديثه معي، بأن الأمر كان محفوفا بالمخاطر "فقد كنا نخشى الأشباح. إذ أن رفضها الانتقال، كان سيثير غضبها ما يشكل خطرا على سكان المنطقة". وشرح لي بعد ذلك باسماً كيف أعقبت عملية نقل رفات الموتى إلى مقبرة أخرى خارج حدود العاصمة، استئجار الحكومة لشاحنات لـ "نقل أرواح الموتى كذلك، بل وتوظيف شخص يُفترض أنه قادر على السيطرة على الأرواح، للإشراف على العملية، ووضع أرواح أصحاب الرفات في الشاحنات، التي بلغ عددها 12 وقامت كل منها بثلاث رحلات يوميا على مدار ثلاثة أيام".
فكرت أن اختيار هذين الرقمين تحديدا لم يكن عشوائيا، فبتلك الوتيرة، تكون الشاحنات قد قامت بـ 108 رحلات، وهو رقم يجلب السعد والحظ، حسبما يعتقد البوذيون. فهو يساوي - مثلا - عدد الرموز المقدسة التي تُعبر تقليديا عن آثار أقدام بوذا نفسه.
وفي ضوء وجود رفات أكثر من ألف شخص تحت ثرى هذه المقبرة، كان من اللازم - حسبما قال لي الضابط البورمي - وضع "10 أرواح في كل شاحنة".
بدا الأمر محيرا بالنسبة ليّ، فلم أستطع أن أتصور - نظريا - عدد الأرواح الذي يُفترض أن تستوعبه كل شاحنة، لكنني تخيلت أنه سيكون أكثر من 10 بالقطع. غير أن الأرواح البورمية، ليست - بحسب من يزعمون أنهم رأوها - مجرد أطياف قليلة الشأن والوزن، بل طويلة القامة يزيد طول كل منها عن المترين. كما أنها تتسم بالوحشية وضخامة البنيان بآذانها وأنيابها هائلة الحجم، بل وألسنتها المخيفة من فرط طولها أيضا. وتستهدف هذه الأشباح السائحين المزعجين تحديدا.
وقالت لي الباحثة براك دو لا بارير إن القصص المتعلقة بـ "أرواح ثار غضبها جراء نقل رفات أصحابها" أمر شائع في ميانمار، وأنها استمعت إلى كثير منها، خلال إجرائها لبعض الدراسات في تسعينيات القرن الماضي. ففي تلك الفترة، تناهت إلى مسامعها أقاويل عما حدث خلال إزالة مقابر في يانغون من "مشكلات لحقت بمحركات" السيارات والشاحنات، بسبب رفض "الأرواح" التي كان يُفترض أنها تُنقل على متنها تغيير مكان رفاتهم. شمل ذلك توقف تلك الشاحنات أو تحركها من تلقاء نفسها، بجانب إصابة سائقيها بالرعب والفزع.
وبحسب الضابط البورمي الذي تحدث إليّ، تضمنت المشكلات التي نجمت عن نقل مقبرة "ناي بي تاو" إلى خارج المدينة، "مشاحنات دارت بين الأرواح، حول الأحقية في الجلوس في المقعد الأمامي للشاحنة. ما كان يدفع الشخص المسؤول عن السيطرة على هذه الأرواح، للتدخل في بعض الأحيان وإصدار أوامر لها بالانتقال للركوب في الخلف".
وواصل الرجل حديثه بالقول :"إن اكتمال حمولة الشاحنة، كان يجعل حركتها أكثر صعوبة، إذ كانت إطاراتها تنغرس في التربة الرخوة" موضحا - وهو يأخذ رشفة من المياه - أن "الأرواح ثقيلة الوزن".
اللافت أن صعوبة هذه المهمة استمرت حتى بعد مضي الأيام الثلاثة المخصصة لها. ففي الليلة التالية لذلك، شاهد مساعد الضابط أونغ خانت في منامه، ثلاثة أشباح تقول له إنها تُرِكَت في مكان المقبرة المزمع إزالتها. وفي اليوم التالي، عاد الضابط إلى الموقع ليجد بالفعل ثلاثة قبور كانت تخفيها شجيرات وأحراش في المكان.
ولأن العلاقة انقطعت بين الضابط البورمي والمسؤول عن السيطرة على الأرواح، الذي ساعده في عملية نقلها المفترضة؛ ساعدني مترجمي في العثور على شخص آخر يعمل في هذا المجال، كان شاهدا على "عملية نقل الأشباح هذه".
في اليوم التالي، أتى ذلك الرجل إلى حيث كنت أقيم، وقال لي إنه كرس نفسه لـ "ما فاي واه"، المعروفة بأنها "الروح الحارسة للمقابر والجبانات في ميانمار". وأشار الرجل الستيني أشيب الشعر، إلى أنه عمل من قبل مُنجما ووسيطا روحانيا. وقال إنه يألف مقابر عاصمة بلاده، لأنه اعتاد القيام بعمله فيها.
روى لي ذلك الرجل كذلك أنه تابع عملية نقل الأرواح، التي أشرف عليها الضابط خانت. وقال إنه شاهد "الأرواح وهي تتكدس في الشاحنات، والإطارات وهي تغوص في الرمال بسبب وزنها. وعندما أمر الوسيط الروحاني المشرف على العملية بعض الأرواح بالخروج من الشاحنات، بدأت في الحركة من جديد".
وتقول الباحثة براك دو لا بارير إن الوسيط الروحاني هو الوحيد القادر على التنقل بين عالم الأحياء وعالم الأموات وعالم الأرواح، وهو ما يجعله قادرا على "تقديم قدر من التعويض" للأرواح التي أُزهقت في ظروف عنيفة.
خلال اليوم الأخير من زيارتي للعاصمة البورمية، استأجرت دراجة نارية لاستكشف بها أنحاء المدينة. وانطلقت بسرعة شديدة على طول طريق سريع مهجور تقريبا هناك، رغم أنه مؤلف من ثماني حارات. على فترات متباعدة للغاية، كانت تقترب مني من الخلف، سيارة سرعان ما تتجاوزني وتمضي في طريقها. وفي معظم الأوقات، كنت وحدي تماما على الطريق. وبعدما قدت الدراجة لساعات طفت خلالها على الكثير من المعابد والمزارات الدينية البوذية، قررت العودة بعد حلول الظلام.
وعلى بعد 10 كيلومترات فقط عن الفندق، لاحظت أن مؤشر الوقود في انخفاض، وذلك وسط شعور غريب يبعثه في نفسك تنقلك عبر الشوارع الخاوية لـ "ناي بي تاو" بعد غروب الشمس. للحظة شعرت بجسدي يرتجف، وأنا أفكر في إمكانية أن تتعطل دراجتي النارية وسط تلك الشوارع المهجورة، بعد كل هذه الحكايات التي سمعتها عن الأرواح. وارتجفت أكثر، وأنا أتخيل أنه ربما سيتعين عليّ أن أدفع دراجتي بنفسي على طول هذا الطريق السريع الخالي، دون رفيق سوى رياح الليل الباردة، التي لا تكف عن الهبوب.
لكنني ذكرّت نفسي حينها، بأن كل شيء أصبح في "ناي بي تاو" على ما يرام، وأنه في "مدينة الأشباح" التي باتت خالية منهم في الوقت ذاته، لم يعد هناك ما يمكن أن يُخيف.
ولم تنته القصص الغريبة المرتبطة بإزالة تلك المقبرة عند هذا الحد، بل رُوي لي أن "أحد الأشباح رفض الرحيل وأصر على البقاء، ولاذ بسيارة مساعد الضابط، وتسبب في مجموعة من المصائب الصغيرة، من بينها تعطل الجرافات العاملة في تشييد المباني المزمعة في مكان المقبرة، ونفوق مفاجئ لقطة كانت تعيش في مجمع سكني تابع للجنة تطوير العاصمة، بجانب إحساس المساعد نفسه بيد شبحية تزيحه من فراشه في إحدى الليالي".
ولم تهدأ هذه الروح المشاكسة - كما قيل لي - سوى بعد استعانة الضابط براهب تلا بعض النصوص البوذية لكي يجعلها تستكين.

Friday, November 1, 2019

الساموراي الأسود: حكاية الرجل الذي "تدافع اليابانيون حتى الموت لرؤيته"

منذ نحو 500 عام وصل رجل أفريقي طويل القامة إلى اليابان ليصبح لاحقا أول محارب ساموراي أجنبي، وقد تناولت هوليود قصة حياته في فيلمين.
وكان الرجل الذي عرف باسم ياسوكي قد وصل لمرتبة الساموراي تحت قيادة أودا نوبوناغا، وهو من كبار الإقطاعيين في اليابان في القرن السادس عشر، فضلا عن أنه كان من أوائل من عملوا على توحيد اليابان.
وفي عام 1579، عندما وصل ياسوكي لأول مرة إلى كيوتو عاصمة اليابان في ذلك الوقت، كان الأمر بمثابة حدث لدى الناس لدرجة أنهم تدافعوا حتى الموت لرؤيته ،بحسب المؤرخ لورانس وينكلر.
وخلال عام انضم ياسوكي إلى أعلى طبقات المحاربين في اليابان وهم الساموراي. وقبل ذلك بوقت طويل كان يتحدث اليابانية بطلاقة ويمتطي صهوة جواده بجوار نوبوناغا في إحدى المعارك.
ووصفه زميله الساموراي ماتسوديرا ليتادا في مذكراته عام 1579 بقوله: "كان طويلا ويصل طوله لنحو 188 سنتيمترا، وأسود البشرة كالفحم".
يذكر أن متوسط طول اليابانيين في القرن الماضي كان 157.9 سنتيمترا لذلك فإن ياسوكي لابد أنه كان أطول من معظم الناس في اليابان في القرن السادس عشر حيث كانت الغالبية تعاني من سوء التغذية.

صناعة محارب

لا توجد سجلات عن تاريخ ومكان مولد ياسوكي. ويقول أغلب المؤرخين إنه جاء من موزمبيق، ولكن البعض يرجح قدومه من بلاد أخرى كإثيوبيا أو نيجيريا.
لكن المعروف أن ياسوكي وصل اليابان مع مبشر إيطالي جزويتي (من الرهبان اليسوعيين) يدعى أليساندرو فاليغنانو في رحلة تفتيشية، وظهر في سجلات التاريخ فقط بين عامي 1579 و1582.
وقال بعض الخبراء إنه كان عبدا، ولكن من الصعب تأكيد ذلك.
ويعمل كل من فلويد ويب وديبورا ديسنو في إنتاج فيلم وثائقي عن حياته.
وتقول ديسنو: "إنه من المستحيل أن يرتقي إلى درجة الساموراي في عام واحد فقط دون خلفية عسكرية مسبقة".
يذكر أن الساموراي يبدأون تدريباتهم منذ الطفولة.

صداقة أمير الحرب

بعد وصوله بوقت قصير إلى اليابان التقى ياسوكي بنوبوناغا ولفت انتباهه بموهبته الجدلية بحسب صناع الفيلم الوثائقي.
وكان ياسوكي يتحدث بعض اليابانية فحدث تقارب بين الرجلين، بحسب الأكاديمي توماس لوكلي الذي وضع كتابا عن ياسوكي.
ووفقا للوكلي فإن ياسوكي كان يسلي نوبوناغا بقصص من أفريقيا والهند التي يعتقد لوكلي أن ياسوكي قضى فيها بعض الوقت قبل توجهه لليابان.
ويقول ويب إن إجادته لليابانية جعلته مفضلا. وأضاف قائلا :"هو على عكس رهبان الجزويت الذين كانت لديهم أجندة دينية لروح اليابان".
وأشارت تقارير إلى أن نوبوناغا أصدر تعليماته لابن أخيه بمنح مبلغ مالي لياسوكي بعد أول اجتماع بينهما.
وكان الكاتب الفرنسي الأفواري، سيرغي بيل، مفتونا بقصة صعود ياسوكي غير التقليدية فوضع كتابا عن المحارب.
وقال بيل لبي بي سي: "ذلك جانب من الغموض الذي يحيط به، لذلك فقد فتنت به".

قواسم مشتركة

لقد كانت هناك العديد من القواسم المشتركة بين المحارب الأفريقي وأمير الحرب الياباني.
كان نوبناغا شديد الإعجاب بفنون القتال ويقضي الكثير من الوقت في التدريب عليها، كما كان شخصا غريب الأطوار ووفقا لويب فإنه كان غالبا ما يرتدي الملابس الغربية ويسعى لصحبة الأكثر انضباطا وذكاء.
ويقول ويب : "كان ياسوكي يحمل معه روح المحارب، وقد فهم ثقافة ولغة اليابان وأحب الرقص وكان يقرض شعر اليوتينزي، وهو شكل تاريخي من الشعر الروائي باللغة السواحلية الذي يحتفي بأفعال الأبطال، مما يشير إلى قدومه من موزمبيق بحسب اعتقاد بعض المؤرخين، أخذا في الاعتبار أن بعض مناطق شمال البلاد مازالت تتحدث السواحلية".